الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية: {يوم تبلى السرائر}و{تبلى السرائر} معناه: تختبر وتكشف بواطنها، وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن {السرائر} التي يبتليها الله تعالى من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة».{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}{السماء} في هذا القسم يحتمل أن تكون المعرفة، ويحتمل أن تكون السحاب، و{الرجع} المطر وماؤه، ومنه قول الهذلي: السريع:وقال ابن عباس: {الرجع}، السحاب فيه المطر، قال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام، قال غيره لأنه يرجع إلى الإرض، وقال ابن زيد: {الرجع} مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال، ومنه منزلة تذهب وترجع، و{الصدع}: النبات، لأن الأرض تتصدع عنه، وهذا قول من قال: إن {الرجع} المطر، وقال مجاهد: {الصدع}: ما في الأرض من شعاب ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره، وهي أمور فيها معتبر، وهذا قول يناسب القول الثاني في {الرجع}، والضمير في {إنه} للقرآن ولم يتقدم له ذكر، من حيث القول في جزء منه والحال تقتضيه، و{فصل}: معناه جزم فصل الحائق من الأباطيل، و(الهزل): اللعب الباطل، ثم أخبر تعالى عن قريش {إنهم يكيدون} في أفعالهم وأقوالهم وتمرسهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتدبرهم رد أمره، ثم قوى ذلك بالمصدر وأكده وأخبر عن أنه يفعل بهم عقاباً سماه {كيداً} على العرف في تسمية العقوبة باسم الذنب، ثم ظهر من قوله تعالى: {فمهل الكافرين} أن عقابه لهم الذي سماه: {كيداً}، متأخر حتى ظهر ببدر وغيره.وقرأ جمهور الناس: {أمهلهم}.وقرأ ابن عباس: {مهلهم}، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف، وقوله تعالى: {رويداً} معناه: قليلاً، قاله قتادة، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر رويداً وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية، وأما إذا ابتدأت بها فقلت: رويداً يا فلان، فهي بمعنى الأمر بالتماهل يجري مجرى قولهم: صبراً يا زيد، وقليلاً عمرو. اهـ. .قال القرطبي: {يوم تبلى السرائر (9)} فيه مسألتان:الأولى: العامل في {يوم} في قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان قوله: {لقادر}، ولا يعمل فيه {رَجْعِه} لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر {إن}.وعلى الأقوال الأُخر التي في {إنه على رجعه لقادِر}، يكون العامل في {يوم} فعل مضمر، ولا يعمل فيه {لقادر}؛ لأن المراد في الدنيا.و{تبلى} أي تمتحن وتختبر؛ وقال أبو الغُول الطُّهَوِيّ:ويروى (تبلى بَسالتُهم).فمن رواه {تُبلى} بضم التاء جعله من الاختبار؛ وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة؛ كأنه قال: لا يُعرف لهم فيها كراهة.و{تُبْلى} تُعْرَف.قال الراجز: أي أعرفك وتعرفني.ومن رواه {تَبْلَى} بفتح التاء فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زماناً بعد زمان.وذلك أن الأمور الشِّداد إذا تكررت على الإنسان هَدّته وأضعفته.وقيل: {تبلى السرائر}: أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر؛ كما قال الأحوص: الثانية: رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اِئتمن الله تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة والغُسل، وهي السرائر التي يختبرها الله عز وجل يوم القيامة» ذكره المهدويّ.وقال ابن عُمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من حافظ عليها فهو وليّ الله حقًّا، ومن اختانهنّ فهو عدوّ الله حقًّا: الصلاة، والصوم، والغُسل من الجنابة» ذكره الثعلبيّ.وذكر الماورْدِيّ عن زيد بن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأمانة ثلاث: الصلاة، والصوم، والجنابة.استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصلاة، فإن شاء قال صليت ولم يصل.استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم.استأمن الله عز وجل ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل.اقرؤوا إن شئتم {يوم تبلى السرآئر}» وذكره الثعلبي عن عطاء.وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: {يوم تبلى السرآئر}: أبْلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث به فلا.والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل.ومن السرائر ما في القلوب؛ يجزي الله به العباد.قال ابن العربيّ: قال ابن مسعود: يُغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة؛ وأشدّ ذلك الوديعة؛ تُمَثّل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها؛ فهو كذلك دَهْرَ الداهرين.وقال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن ائتُمنتِ المرأة على فرجها.قال أشهب: قال لي سفيان: في الحَيضة والحمل، إن قالت لم أحِض وأنا حامل صُدّقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة.وفي الحديث: «غُسل الجنابة من الأمانة» وقال ابن عُمر: يُبدِي الله يوم القيامة كل سر خفيّ، فيكون زيناً في الوجوه، وشيناً في الوجوه.والله عالم بكل شيء، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا ناصر (10)}قوله تعالى: {فَمَا لَهُ} أي للإنسان {مِن قُوَّةٍ} أي مَنْعة تمنعه.{وَلاَ نَاصِرٍ} ينصره مما نزل به.وعن عِكرمة {فما له مِن قوّةٍ ولا ناصِرٍ} قال: هؤلاء الملوك، ما لهم يوم القيامة من قوّة ولا ناصر.وقال سفيان: القوّة: العَشِيرة.والناصر: الحلِيف.وقيل: {فما له من قوّةٍ} في بدنه.{ولا ناصِرِ} من غيره يمتنع به من الله.وهو معنى قول قتادة.قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ الرجع} أي ذات المطر.ترجِع كل سنة بمطر بعد مطر.كذا قال عامة المفسرين.وقال أهل اللغة: الرجْع: المطر، وأنشدوا للمُتَنَخِّل يصف سيفاً شبهه بالماء: ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه؛ قاله الجوهري.قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضًا: نبات الربيع.وقيل: {ذَاتِ الرجع}: أي ذات النفع.وقد يُسمى المطر أيضًا أَوْباً، كما يسمى رَجْعاً، قال: وقال عبد الرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يَرْجعن في السماء؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى.وقيل: ذات الملائكة؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد.وهذا قَسَم.{والأرض ذَاتِ الصدع} قَسَم آخر؛ أي تتصدّع عن النبات والشجر والثمار والأنهار؛ نظيره {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 26]... الآية.والصدع: بمعنى الشَّق؛ لأنه يصدع الأرض، فتنصدع به.وكأنه قال: والأرض ذات النبات؛ لأن النبات صادع للأرض.وقال مجاهد: والأرض ذات الطُّرُق التي تَصْدَعها المشاة.وقيل: ذاتِ الحَرْث، لأنه يصدعها.وقيل: ذاتِ الأموات: لأنصداعها عنهم للنشور.{إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ} على هذا وقع القَسَم.أي إن القرآن يَفْصل بين الحق والباطل.وقد تقدّم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتاب فيه خَبَر ما قبلكم وحُكْم ما بعدكم، هو الفَصْل، ليس بالهزل، من تركه من جَبَّار قَصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله».وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: {إِنَّهُ على رجعه لقادر يوم تبلى السرآئر}.{وَمَا هوَ بالهزل} أي ليس القرآن بالباطل واللعب.والهزل: ضدّ الجِدّ، وقد هَزَلَ يَهْزِل.قال الكميت: {إِنَّهُمْ} أي إن أعداء الله {يكيدون كَيْداً} أي يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مَكراً.{وَأَكِيدُ كَيْداً} أي أجازيهم جزاء كيدهم.وقيل: هو ما أوقع الله بهم يوم بدرٍ من القتل والأَسر.وقيل: كَيْد الله: استدراجُهم من حيث لا يعلمون.وقد مضى هذا المعنى في أوّل (البقرة)، عند قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].مستوفىً.قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين} أي أخرهم، ولا تسأل الله تعجيل إهلاكهم، وارضَ بما يدبره في أمورهم.ثم نسخت بآية السيف {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].{أَمْهِلْهُمْ} تأكيد.ومَهْل وأمهِل: بمعنى؛ مثل نَزِّل وأَنْزِل.وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلاً، والاسم: المُهْلَة.والاستمهال: الاستنظار.وتَمهَّل في أمره أي اتّأد.واتْمَهَلْ اتْمِهْلالا: أي اعتدل وانتصب.والاتْمِهلال أيضًا: سكون وفتور.ويقال: مهلاً يا فلان؛ أي رِفقاً وسكوناً.{رُوَيْداً} أي قريباً؛ عن ابن عباس.قتادة: قليلاً.والتقدير: أمهلهم إمهالاً قليلاً.والرُّوَيْد في كلام العرب: تصغير رُوْد.وكذا قاله أبو عبيد وأنشد: أي على مَهَل.وتفسير {رُوَيداً}: مَهْلاً، وتفسير (رُوَيْدَك): أمهِل؛ لأن الكاف إنما تَدْخله إذا كان بمعنى أفعِل دون غيره، وإنما حرّكت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد؛ وهو مصدر أَرْوَد يُرْوِد.وله أربعة أوجه: اسمٌ للفعل، وصفة، وحال، ومصدر؛ فالاسم نحو قولك: رُوَيْدَ عَمْراً؛ أي أروِد عمرا، بمعنى أمهِله.والصفة نحو قولك: ساروا سيراً رُوَيْدًا.والحال نحو قولك: سار القوم رُوَيْداً؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالاً لها.والمصدر نحو قولك: رُوَيْدَ عَمرٍو بالإضافة؛ كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4].قال جميعه الجوهريّ: والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتاً للمصدر؛ أي إمهالاً رُوَيداً.ويجوز أن يكون للحال؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب.ختمت السورة. اهـ.
|